الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية بقلم الإعلامي ماهر عبد الرحمان، آلو جدّة: مجرّد كاميرا كاشيه أم تراجي كوميديا «جزيرة العبيد»؟

نشر في  09 جوان 2016  (11:21)

نشر الإعلامي ماهر عبد الرحمان مقالا حول «الو جدّة» هذا ما جاء فيه...

ماذا يمكنُ تصنيف ما يطلق عليه "كاميرا كاشيه" (كاميرا خفيّة) التي تحمل عنوان "ألو جدّة" على قناة التّاسعة؟ هل هي فعلا كاميرا كاشيه هدفها الإضحاك البريء ؟ أم أنّها تتجاوز هذا النّوع التلفزيوني إلى ما يعرف بتلفزيون الواقع باستخدام التراجيديا الكوميديّة بهدف اتصاليّ يبحث عن إحداث ردّة فعل تنتهي بقبول أمر ما عادة ما يكون مرفوضا؟
تقوم فكرة " الكاميرا الخفيّة" الاصليّة عند اختراعها كنمط تلفزيوني في بداية سبعينات القرن الماضي على إضحاك المتفرّج من تصرّفات شخص في مواجهة موقف غريب أو محرج ليقع في فخّ كاميرات خفيّة. لكن يتغيّر الاشخاص والمواقف في كلّ حلقة.
غير أنّ ما يسمّى الكاميرا كاشيه في حالة برنامج "ألو- جدّة" يخرج عن هذا النّمط من حيث أن الموضوع هو نفسه ويتكرّر في كلّ حلقة، أي تدخّل مباشر مزعوم من بن علي من جدّة أثناء حوار يجريه المذيع مع ضيف مختار بدقّة عُرف إمّا بموقف معارض لنظام بن علي ولو لمرّة واحدة، أو بالمزايدة في الثّوريّة رغم المستوى الثقافي المحدود، أو بالتقلّب في المواقف بين اليمين واليسار، أو بالولاء لبن علي في السّابق واللّاحق... ألخ.
وما رأيناه من خلال الحلقتين الأوليين وبعض اللقطات الإعلانيّة للحلقات القادمة، سقطت اقنعة الثّورجيين، وإذا بهم لا زالوا يحملون احتراما، بل وحبّا "للسيد الرئيس"، وإيمانا في صدروهم بقدرته على الزعامة، وقناعتهم أنّه لم يكن "سارقا"، بل أنّ السرقات في عهده ليست بشيء أمام ما يحدث اليوم من سرقات.
سيتغيّر الضّيوف، لكن سنبقى نسمع مثل هذا الكلام لثلاثين ليلة كاملة سواء مباشرة على قناة التاسعة، أو في الفيديوهات الموزعة على المواقع الإجتماعيّة... دفاع عن بن علي، وتبييض لصفحته، وتاكيد أنّه كان ضحيّة مؤامرة، وأنّ عصره كان أزهر العصور التي مرّت به تونس، وأنه كان حامي الوطن من الإرهاب، مع تركيز على الجانب العاطفي من حيث اشتياقه لوطنه ولعائلته، ألخ...
نحنُ هنا في قلب عمليّة اتّصاليّة Action communicative جهنّميّة ترمي إلى تنسية النّاس في أيّام الدكتاتوريّة، والوعود الكاذبة، و التّنكيل بالمعارضين وسجنهم، والسير نحو رئاسة إلى حدّ الممات (بن علي كان يكذب الرئاسة مدى الحياة)، والأرقام المضخّمة والمغلوطة، والإعلام الرّديء، وحقوق الإنسان المبعثرة، واستيلاء الطرابلسيّة على اقتصاد البلاد... ستركّز فقط على "حسناته" التي يرى النّاس اليوم أنّ البلاد في حاجة إلى مثلها.
ومن يتفوّه بمثل هذا الكلام؟ هم الثّورجيّون طبعا... فمن سيبقى مُعارضا إذن لعودته؟ُ
سيُدافع البعض بالقول إن الأمر لا يتعدّى الكوميديا... لكنها، ليست كذلك لأنّ:
- هذه الكوميديا يُشارك فيها أناس حقيقيّون وليس ممثلين، يعبّرون عن أحاسيس حقيقيّة يمكن لها أن تؤثّر على الجمهور. وهذا أقربُ لتلفزيون الواقع منه إلى مجرّد كاميرا خفيّة.
- الموضوع المُتناول هو سياسيّ بامتياز وآني: وهو مصير الرّئيس الأسبق الذي اسقطته ثورة، وما يدور حوله من نقاش ساخن حول حقّه من عدمه في العودة إلى تونس.
- البرنامجُ يُبثّ في ظرف أزمات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وبحث عن زعيم قويّ يقود تونس لإنقاذها من مصير غير واضح المعالم.
هذه تراجيديا كوميديّة (أو تراجي كوميديا) مثلما كانت عند الإغريق واستمرّت في المسرح العالمي على مدى قرون، لكنّها مرتبطة مُباشرة بالواقع. وتُعرف التراجي كوميديا بأنّها شكل مسرحي تدور أحداثه الدّراميّة حول قصّة حبّ، وتكون الشخصيّات عادة من عليّة القوم، لكن تكون النهاية دائما سعيدة.
ولا يمكنُ القول إنّه ليس للمسرح تأثير على النّاس لأنّه فنّ خيالي... هذا ليس صحيحا. فتقنيات الكتابة المسرحيّة بالتّغريب والإسقاط كان لها دائما هدف التّأثير على المشاهد حتّى لو كانت الأحداث التي يعيشها تدور في مكان وزمن آخرين، وحتّى لو كان الظّاهر إضحاكا. ولا أريد العودة إلى مسرحيّة أورسون ويلز الإذاعيّة التي جعلت النّاس يهربون حقيقة من المدينة خوفا من غزو الكائنات الفضائية.
فما بالك إذا كان الأمر برنامجا تلفزيّا مباشرا يتلقّاه النّاس في بيوتهم ويُعالج موضوعا ذا أهميّة قصوى؟
ذكّرتني "الكاميرا الخفيّة" لبرنامج "ألو-جدّة" ومواقف الضّيوف فيها بالمسرحيّة الترّاجيديّة للكاتب الفرنسي ماريفو Marivaux والتي تحمل عنوان "جزيرة العبيد".
ملخّص القصّة أنّ جنرالا إغريقيّا يدعى إيفيكرات نجا من غرق سفينته مع عبده أرليكان ونزلا بجزيرة في مكان ما من البحر. وكانت معهما سيدتان واحدة حرّة وهي أوفروزين، والأخرى عبدة وتُدعى كليانتيس.
غير أنّه من سوء حظ إيفاكارت أن حاكم الجزيرة (تريفيلين) كان عبدا سابقا ثار على مالكيه وأصبح هو سيّدا. وفرض تريفيلين قانونا في الجزيرة يجعل من الاسياد عبيدا، ومن العبيد أسيادا.
انقلبت الوضعيّة بين الجنرال إيفيكارت وعبده أرليكان، وأيضا بين السيدتين اوفروزني وكليانتيس. غير أنّ أرلكان لم يقدر على ممارسة الحياة الإجتماعيّة للاسياد، وبسبب خبث أفروزين، قرّر التخلّي عن حرّيته واعتذر لسيّده. واعتذر إيفاكرت بدوره عن سوء معاملته السّابقة لعبده، وقرّر الجميع الرجوع إلى الوضعيّة السّابقة.
اكتشف تريفيلين حاكم الجزيرة الأمر، فلم يتعرض وباركه. بل خصّص سفينة للجنرال الإغريقي للعودة إلى بلاده مع عبيده، وكان الجميع فرحين مسرورين بالنّهاية السّعيدة...
ما أشبه وضعنا اليوم بجزيرة العبيد.
فهل هذا ما ترمي إليه التراجيدا الكوميديّة لقناة التّاسعة؟
هي مُحكمة بدرجة لا تترك مجالا للشّك في انّها لا تخرج عن هذا السّياق. ولن أزيد حتّى لا أطيل أكثر ممّا أطلت.